الليل عزنا
للناس في الليل أحوال ومنازل، فشتان بين ليل أهل الدنيا وليل أهل الآخرة.. شتان بين من يقضي ليله في طاعة مولاه وبين من يقضي ليله، يعبُّ في الشهوات، ويقارف المنكرات، يعيش في اللهو والمجون واللذات، لا يخشى خالقًا، ولا يستحيي من مخلوق.
شتان بين من يصفُّ قدميه لله في دياجير الليل راكعًا وساجدًا، مستغفرًا تائبًا منيبًا، وجلاً قلبه، دامعةً عينه، وبين من يغطُّ في نومه حتى الصباح، نهاره شراب وطعام، وليله رقاد ومنام، لسان حاله يقول:
إنما الدنيا طعام *** وشراب ومنام
فإذا فاتك ذلك *** فعلى الدنيا السلام
شتان بين ليل المطيعين، وليل العصاة، قال القشيري: "الليل لأحد رجلين: للمطيع وللعاصي؛ هذا في احتيال أعماله، وهذا في اعتذار عن قبيح أفعاله" (لطائف الإشارات، لعبد الكريم القشيري ج4 ص36).
لماذا قيام الليل؟!
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "فضل صلاة الليل على صـلاة النهار كفضل صدقة السر على صدقة العلانية" (لطائف المعارف ص54).
وقال عمرو بن العاص: "ركعة بالليل خير من عشر بالنهار" (لطائف المعارف ص54).
وقال الإمام بن رجب: "وإنما فضِّلت صلاة الليل على صلاة النهار؛ لأنها أبلغ في الإسرار، وأقرب إلى الإخلاص" (لطائف المعارف ص54).
وقال الإمام النووي: "وإنما رجِّحت صلاة الليل وقراءته؛ لكونها أجمع للقلب، وأبعد عن الشاغلات والملهيات والتصرف في الحاجات، وأصون عن الرياء وغيره من المحبطات، مع ما جـاء الشرع به من إيجـاد الخيرات في الليـل" (التبيان في آداب حملة القرآن، للإمام النووي ص28).
ولأن الليل أطيب الأوقات التي يخلو فيها المحبوب بمحبوبه، فيطيب الكلام، وتحلو المناجاة،
: "لعل أطيب أوقات المناجاة أن تخلو بربك والناس نيام، والخلِّيُّون هُجَّع، قد سكن الكون كله، وأرخى الليل سدوله، وغابت نجومه، فتستحضر قلبك، وتتذكَّر ربك، وتتمثَّل ضعفك وعظمة مولاك، فتأنس بحضرته، ويطمئن قلبك بذكره، وتفرح بفضله ورحمته، وتبكي من خشيته، وتشعر بمراقبته، وتلحُّ في الدعاء، وتجتهد في الاستغفار، وتفضي بحوائجك لمن لا يعجزه شيء، ولا يشغله شيء عن شيء... تسأله دنياك وآخرتك، وجهادك ودعوتك، وأمانيك ووطنك، وعشيرتك ونفسك وإخوانك"
فهو "وقت صفاء الخاطر عن الأشغال المشوشة، وجمع القلب، وهدوء الصوت، ونوم الناس، وأبعد من الرياء والسمعة، وأفضل أوقات الطاعة ما كان فيه الفراغ وإقبال الخاطر، وأيضًا فذلك الوقت وقت النزول الإلهي.. وأيضًا فللسهر خاصيةٌ عجيبةٌ في إضعاف البهيمية، وهو بمنزلة الترياق، ولذلك جرت عادة طوائف الناس أنهم إذا أرادوا تسخير السباع وتعليمها الصيد لم يستطيعوه إلا من قِبَل السهر والجوع، ولذلك كانت العناية بصلاة التهجد أكثر، فبين النبي صلى الله عليه وسلم فضائلها، وضبط آدابها وأذكارها" (حجة الله البالغة لشاه ولي الله الدهلوي ج1 ص100).
وفي الليل تخرج الكنوز من القلوب، وتتفرَّغ معاني العبودية المخزونة، فالعبد المؤمن الذي يقضي نهاره في نظرات وتأملات من الذكر والتلاوة، والدعوة والحركة؛ إذا ما جَنَّ الليل تفجَّرت هذه المعاني، فأعلن العبودية والخشيـة لله، وأظهر الذل الانكسار والافتقار لله.
ولأنها شاقة على النفوس فقد زاد فضلها وعظم أجرها، قال عمر بن عبد العزيز: "أفضل الأعمال ما أُكرهت عليه النفوس" (سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز، لابن الجوزي، ص183).
نعم هي شديدة لا يقوى عليها إلا موفق، كابد نفسه وراضها حتى استقامت، قال محمد بن المنكدر: "كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت" (حلية الأولياء، ج3 ص147، وصفة الصفوة ج2 ص495).
وقال ثابت البناني: "كابدت قيام الليل عشرين سنةً، وتنعَّمت به عشرين سنة أخرى" (لطائف المعارف ص75).
ولأن ركعات الليل لا يقدر عليه إلا أهل الإرادات، وأصحاب العزائم، قال الإمام ابن رجب: "الليل منهلٌ يرده أهل الإرادة كلهم، ويختلفون فيما يردون ويريدون ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشَرَبَهُمَ﴾ (البقرة: من الآية 60)، فالمحب: يتنعم بمناجاة محبوبه، والخائف: يتضرَّع لطلب العفو ويبكي على ذنوبه، والراجي: يُلِحُّ في سؤال مطلوبه، والغافل المسكين: أحسن الله عزاءه في حرمانه وفوات نصيبه" (لطائف المعارف ص 65).
إلى المسلم أينما وجد :أهمس.. الليل عزنا
فما زال قيام الليل هو الطريق المُعبَّد في خارطتنا الإيمانية، وُطِّئَتْ سُبله بآثار أقدام المتهجِّدين، أما النوم والغطيط، والتنعُّم بالدفء والفراش فصحارى مهلكـة.
"فالذين يسلكون طريق الاسلام أحوج ما يكونون إلى قيام الليل؛ لما يعطيه من الزاد" ( 2).
فهنا فريق الأيقاظ، شديدو الحساسية برقابة الله لهم، ورقابتهم هم لأنفسهم، "فهم الأيقاظ في جنح الليل والناس نيام، المتوجهون إلى ربهم بالاستغفار والاسترحام، لا يطعمون الكرى إلا قليلاً، ولا يهجعون في ليلهم إلا يسيرًا، يأنسون بربهم في جوف الليل، فتتجافى جنوبهم عن المضاجع، ويخفُّ بهم التطلع، فلا يثقلهم المنام".
نعم..لنكن دعاة ......لماذا لا نكون دعاة ..... فالدعاة من هم الدعاة؟ الدعاة إلى الله هم الذين يجيدون الانقلاب إلى المساجد.. الدعاة الذين يمرغون الجباه في المحاريب.. الدعاة الذين يهتفون باسم الله بين الأعواد.. الدعاة الذين يختمون القرآن تحت سواريه دون أن يشغلهم شاغل، أو يصرفهم صارف، قد تعلَّقت قلوبهم بالمساجد، ولولا أن الله سبحانه قال: ﴿فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)﴾ (الجمعة) ما خرجوا منها أبدًا.
فالدعاة هم الذين ينيرون الليل المظلم بأنوراهم المشرقة، هم الذي يعطِّرون بأنفاسهم نسيم السحر، هم الذين يبدِّدون الصمت المطبق بآيات القرآن، ويبدِّدون السكون الموحش بانحناء الأصلاب، وسكون الجباه، هم الذين يَرْوون الجفاف اليابس بدموع الأسحار، قلوبهم خاشعة، وأنفسهم زكية، وألسنتهم ذاكرة، وأعينهم ساهرة، وجباههم ساجدة، وجنوبهم متجافية، مساؤهم مساء الصالحين، وليلهم ليل العابدين، الله أكبر من ليلهم ما أروعه!، ومن قيامهم ما أمتعه!، ومن أنينهم ما أحبه!.
فالليل هو مدرسة الربانيين من الدعاة، الذين تصلح بهم الدنيا، ويُعزُّ بهم الدين.. "وإنها حقًّا لمدرسة، فيها وحدها يستطيع رجالها أن يُذكوا شعلة حماستهم، وينشروا النور في الأرجاء التي لفَّتها ظلمات الجاهلية".
ولذلك لا يستغرب بعد ذلك أن تكون هذه العبادة الشاقة على النفس هي التي ربَّى فيها الربُّ- سبحانه وتعالى- نبيه صل الله عليه وسلم قبل أن يبعثه، وكانت واجبةً عليه وعلى أتباعه في البداية؛ ذلك لأن جيل التأسيس لا يستطيع القيام بمهام الدعوة العظيمة ما لم يكن صلب القاعدة، ومتين الأساس.
وإن أي دعوة تريد أن تخطو خطواتٍ على طريق التمكين، فلا بد أن يكون لأبنائها نصيب كبير من الليل، بمشاقِّه ومتاعبه، بثماره وأرباحه، "وإن دعوة الإسلام اليوم لا تعتلي حتى يُذْكي دعاتها شعلهم بليل، ولا تشرق أنوارها فتبدِّد ظلمات جاهلية القرن العشرين ما لم تلهج بـ"يا قيوم".
ما نقول هذا أول مرة، وإنما هي وصية يخاطب بها الدعـاة، : "دقائق الليل غالية، فلا ترخِّصوها بالغفلة".
أفعيينا أن نُعيدَ السمت الأول؟ أم غرَّنا اجتهادٌ في التساهل والتسيُّب والكسل من جديد؟!
إن القول لدى الله لا يبدَّل، ولكنَّا أرخصنا الدقائق الغالية بالغفلة، فثقل المغـرم، ولم يجعل الله لنا من أمرنا يسرًا.
إن انتصار الدعوة لا يكمن في كثرة الرقِّ المنشور، بل برجعة نصوح إلى العرف الأول (الرقائق للأستاذ محمد أحمد الراشد ص22).
فلا بدَّ أن يَصُفَّ الدعاة أقدامهم بليل، وأن ينصبوا سيقانهم، ويرفعوا أيدي الضراعة في ظلماته، فإذا ما فعلوا كانوا على الدرب، أما إذا ما غطُّوا في نومهم، فلا أنام الله أعينهم.
سأل رجلٌ إبراهيم بن هارون- رحمه الله- عن كم حزبه من الليل، فقال: "أوَ أَنام من الليل شيئًا؟!! إذًا لا أنام الله عيني" (تاريخ بغداد، ج14 ص341، وصفة الصفوة ج3 ص18).
فإن من أعجب العجاب أن تجد داعيةً يصول ويجول، ويروح ويجيء، ويخطب ويحاضر، ويُنظِّم ويخطط، ويدير ويوجِّه، ثم إذا جنَّه الليل يأتي سريره كأنه خشبة لا تتحرك، ولا تجري فيها الحياة.
عجبًا كيف يسمَّى داعيةً من ليس له نصيب من ركعات يركعها بالليل؟!
عجبًا من عين داعية، كيف تُطيعه في أن تقضي عُرض الليل مغمضة نائمة؟!
عجبًا من قدمي داعية، كيف تُطيعه في أن تظل طوال الليل ممدة؟!
عجبًا من جسمان داعية، كيف يُطيعه في أن يظل طوال الليل هامدًا؟!
فمن سواكم أيها الدعاة يُضيء عتمات الليل بنور القيام؟ ومن سواكم أيها الدعاة يرجُّ ثُبات الكون بآي القرآن؟!
يا دعاة اليوم يا مِلح البلد *** من يُصلح الملح إذا الملح فسد
عجبًا كيف يكون ليل الداعية كليل الجُهَّال، ونهاره كنهار السفهاء، فماذا يفيده أن يُعدَّ في عداد الدعاة وقلبه وعمله وخلقه وسلوكه بعيد عنهم!!.
كان سفيان بن عيينة يقول: "إذا كان نهاري نهار سفيه، وليلي ليل جاهل، فما أصنع بالعلم الذي كتبت" (حلية الأولياء ج7 ص217).
عجبًا لداعية يحفظ القرآن، وتحمل يده المصحف، فإذا جنَّه الليل نام كالجيف.
يقول سفيان بن عيينة: "كيف يكون حاملُ القرآن عاملاً به وهو ينام الليل ويفطر النهار" (تنبيه المغترين للشعراني ص36).
فالنوم طوال الليل إذا جاز في حق كل الناس، فإنه لا يجوز في حق الدعاة، كيف يجوز لهم ذلك وهم الذين نذروا أنفسهم لإنقاذ الغرقى من بحور المعاصي، وانتشالهم من ظلمات الجهل، وإرشاد الناس على طريق الله.
قال أبو عصمة بن عصام البيهقي: "بتُّ عند أحمد بن حنبل، فجاء بالماء فوضعه، فلما أصبح نظر إلى الماء، فإذا هو كما كان، فقال: سبحان الله!! رجل يطلب العلم لا يكون له وقت بالليل" (فتح المغيث للسخاوي ص360 ، وتاريخ بغداد ج57).
فسبحان الله، داعية يُبصِّرُ الناسَ بطريق لا يعرفه! يدلُّ الناس على طريق الله، وليس له وقت بالليل بين يدي مولاه!.
إن الذين يقفون عند حدود المعلومات النظرية للتربية الإلهية القرآنية دون أن يكون لهم نصيب من التطبيق العملي والتجربة.. فهؤلاء ليسوا بعلماء، وليسوا بدعاة، وإنما هم جامعو معلومات، لا تقربهم من الحق خطوة واحدة، أولئك هم مفاليس الآخرة، فأنَّى يكون لهم نصر وتمكين، وأنَّى تُفتح قلوب الناس لدعوتهم؟!!
فإن الفتوحات والتوفيق، وإرشاد الناس لخير الأمور لن يكون إلا إذا كان الإنسان قائمًا بحقوق مولاه، فيهديه الله لسبل الخير من حيث لا يدري، وترد الفوائد وتنهمر عليه اللطائف في ظُلم الليل، وإذا خفي على الإنسان شيء قام في ظلام الليل، ووقف في محرابه، وصلى ركعات، فإذا بالله يفتح عليه.
أستحلفك بالله يا أخي أن تقوم الآن، وأن تضرب بأقدامك لحاف النوم، فإن لم تقم أنت فمن يقوم؟!
إن لم تكن للحق أنت فمن يكون والناس في محراب لذات الدنايا عاكفون
قم من فراشك فليس للدعاة وقت للنوم.. "قم للأمر العظيم الذي ينتظـرك، والعبء الثقيل المهيأ لك.. قم للجهد والنَصَبِ، والكد والتعب.. قم فقد مضى وقت النوم والراحة.. قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد.. فإن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحًا، ولكنه يعيش صغيرًا ويموت صغيرًا، فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير فما له والنوم؟ وما له والراحة؟ وما له والفراش الدافئ، والعيش الهادئ، والمتاع المريح؟!"
"فالطريق طويل، والعبء ثقيل، ولا بد من الزاد الكثير، والمدد الكبير.. وهو هناك؛ حيث يلتقي العبد بربه في خلوة وفي نجاء، وفي تطلع وفي أنس.. تفيض منه الراحة على التعب والضنى، وتفيض منه القوة على الضعف والقلـة؛ وحيث تنفض الروح عنها صغائر المشاعر والشواغل، وترى عظمة التكليف، وضخامة الأمانة، فستصغر ما لاقت وما تلاقي من أشواك الطريق!..
إن الله رحيم، كلَّف عبده الدعوة، ونزَّل عليه القرآن، وعرَّفه متاعب العبء وأشواك الطريق، فلم يدع نبيه صلى الله عليه وسلم بلا عون أو مدد، وهذا هو المدد الذي يعلم سبحانه أنه هو الزاد الحقيقي الصالح لهذه الرحلة المضنية في ذلك الطريق الشائك، وهو زاد أصحاب الدعوة إلى الله إلى الله في كل أرض، وفي كل جيل؛ فهي دعوة واحدة، ملابستها واحدة، وموقف الباطل منها واحد، وأسباب هذا الموقف واحدة، ووسائل الباطل هي ذاتها وسائله، فلتكن وسائل الحق هي الوسائل التي عَلِمَ الله أنها وسائل هذا الطريق"
فيا من كان له قلب فانقلب، يا من كان له وقت مع الله فذهب، قيام السحر يستوحش لك، وصيام النهار يسأل عنك، ليالي الوصال تعاتبك على الهجر.
تغيرتمو عنَّا بصحبة غيرنا *** وأظهرتم الهجران ما هكذا كنَّا
وأقسمتمو ألَّا تحولوا عن الهوى *** فحلتم عن العهد القديم وما حلنا
ليالي كنا نستقي من وصالكم *** وقلبي إلى تلك الليالي قد حَنَّا
ويستصرخك نسيم السحر:
أين أيامك والدهر ربيع *** والنوى معزولة والقرب والٍ
أستحلفك بالله يا أخي، كفى هذا الجفاء، كفى النوم والراحة، ربك مشتاق إليك، يحب أن يراك بين يديه بالليل، قم فالنجوم تهتف فيك من عليائها:
قم الليل يا هذا لعلك ترشد *** إلى كم تنام الليل والعمر ينفد
أراك بطول الليل- ويحك- نائمًا *** وغيرك في محرابه يتهجد
ولو علم البطَّال ما نال زاهد *** من الأجر والإحسان ما كان يرقد
فصام وقام الليل والناس نُوَّم *** ويخلو برب واحد متفرد
ماذا دهاك يا أخي؟ يحب أن يراك وتأبى أن تذهب إليه!! ربك يدعوك وأنت تُعرض عنه!! لا تجيبه وأنت تزعم حُبَّه!!.
"أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: يا داود، كذب من ادَّعى محبتي وإذا جنَّ عليه الليل نام عنِّي، أليس كل محب يحب الخلوة بحبيبه" [color=blue](المستطرف في كل فن مستظرف للإبشيهي ص 14).
تعصي الإله وأنت تزعم حبه *** هذا لعمرك في القياس شنيع
لو كان حبك صادقًا لأطعته *** إن المحب لمن يحب مطيع
وعن الحسين بن حسن قال: أخذ الفضيل بن عياض بيدي، ثم قال: "يا حسين.. يقول الله: كذب من ادَّعى محبتي، وإذا جنّه الليل نام عني، أليس كل حبيب يحب خلوة حبيبه؟ هاأنذا مُطَّلِع على أحبابي، فإذا أجنهم الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم، ومثلت نفسي بين أعينهم، فخاطبوني على المشاهدة، وكلموني على الحضور" (عيون الأخبار لابن قتيبة، ج2 ص230).
فأول درجات المحبة كثرة الزيارات، وتتابع الجلسات، وأنت قليل الزيارات، مُتقاطع الجلسات، بخيل بالركعات والسجدات، فما هذا بحب.
والصبر يحمد في المواطن كلها *** وعن الحبيب فإنه لا يحمد
ويستصرخك عابد الصنم أن تقوم بين يدي مولاك، فإن لم تقم فبئس القوم أنت تنام ومولاك لا ينام، قال عبد الواحد بن زيد: "ركبنا في مركب فطرحتنا الريح إلى جزيرة، فإذا فيها رجل يعبد صنمًا، فقلنا له: من تعبد؟ فأومأ إلى الصنم، فقلنا: إن معنا في المركب من يسوي مثل هذا، ليس هذا بإله يُعْبَد، قال: فأنتم لمن تعبدون؟ قلنا: الله عزَّ وجلَّ، قال: وما الله؟ قلنا: الذي في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، وفي الأحيـاء والأموات قضاؤه، فقال: كيف علمتم به؟ قلنا: وجه هذا الملك إلينا رسولاً كريمًا، فأخبرنا بذلك، قال: فما فعل الرسول؟ قلنا: لما أدَّى الرسالة قبضه الله؟ قال: فما ترك عندكم علامة؟ قلنا: بلى، ترك عندنا كتاب الملك، قال: أروني كتاب الملك، فينبغي أن تكون كتب الملوك حِسانًا، فأتيناه بالمصحف، فقال: ما أعرف هذا، فقرأنا عليه سورة من القرآن، فلمْ نَزَلْ نقرأ ويبكي، حتى ختمنا السورة، فقال: ينبغي لصاحب هذا الكلام أن لا يُعصى، ثم أسلم، وحملناه معنا، وعلمناه شرائع الإسلام، وسورًا من القرآن، فلما جنَّ علينا الليل، وصلينا العشاء، أخذنا مضاجعنا، فقال لنا: يا قوم هذا الإله الذي دللتموني عليه إذا جن عليه الليل ينام، قلنا: لا يا عبد الله، هو عظيم قيوم لا ينام، قال: بئس العبيد أنتم، تنامون ومولاكم لا ينام" (روض الرياحين في حكايات الصالحين لأبي السعادات اليافعي ص45، وصفة الصفوة ج4 ص369).
يا من أرخصتم دقائق الليل بغفلتكم، يا من قصرتم الليل بنومكم، ودنستم النهار بآثامكم، يوصي يحيى بن معاذ كل واحد منكم، فيقول: "الليل طويل، فلا تقصره بمنامك، والإسلام نقي فلا تدنسه بآثامك" (لطائف المعارف لابن رجب ص356، وصفة الصفوة ج4 ص94).
ويأبى الإمام الشهيد حسن البنا إلا أن يقدح زناد الحماس في نفسك، فيخط كلماته النيرات، ليبين لك فضل ركعات الليل، وعظيم جزائها، فيقول: "هي قرة العين، وراحة الضمير، وأنس النفس، وبهجة القلب، والصلة بين العبد والرب، والمدفأة تصعد برقيها أرواح المحبين، إلى أعلى عليين، فتنعم بالأنس، وترتع في رياض القدس، وتجتمع لها أسباب السعادة من عالمي الغيب والشهادة.
وتلك بارقة تسطع في نفس من قدح زنادها، وحلاوة يستشعرها من تذوق مشهدها، وهل رأيت بربك أعذب وأحلى، وأروع وأجلى، من مظهر ذلك الخاشع العابد، الراكع الساجد، القانت آناء الليل يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، وقد نامت العيون، وهدأت الجفون، واطمأنت الجنوب في المضاجع، وخلا كل حبيب بحبيبه، ونادى منادي العارفين من المحبين:
سهر العيون لغير وجهك ضائع *** وبكاؤهن لغير فقدك باطل (1)
فيا أيها الداعية.. اسجد واقترب، فبدون هذه الركعات والسجدات وهمهمات الليل لن تحقق قربًا من الله، ولن تحقق قربًا من النصر والتمكين.
فيا أخي.. أدعو فيك إيمانك بالله، وهو مستقر في قلبك، وهو يملأ نفسك... وأخاطب فيك إيمانك بالمصطفى صلى الله عليه وسلم وهو الذي يملأ قلبك، وينطق بالصلاة والسلام عليه لسانك، إنني أدعوك للخير الذي تحبه، والأجر الذي تنشده، فلا تكن من الغافلين النائمين، وليكن لك من الليل نصيب ولو ركعات معدودات، قال محمد بن سيرين: "لا بد من قيام الليل ولو بقدر حلب شاة" (فتح القدير للشوكاني ج5 ص443، والجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي ج4 ص356، والزهد للإمام أحمد ص306، وإحياء علوم الدين ج1 ص558، ومصنف بن أبي شيبة ج2 ص72 رقم(6609) والتمهيد ج13 ص209).
يا راقــد الليل كم ترقـد *** قم يا حبيبي قد دنا الموعد
وخـذ من الليل وأوقاتـه *** وردًا إذا ما هـجع الرُّقَّـد
من نام حتى ينقضي ليلـه *** لم يبلـغ المنزل أو يجهـد
قل لأولي الألباب أهل التقى *** قنطرة العرض لكم موعـد
-
للناس في الليل أحوال ومنازل، فشتان بين ليل أهل الدنيا وليل أهل الآخرة.. شتان بين من يقضي ليله في طاعة مولاه وبين من يقضي ليله، يعبُّ في الشهوات، ويقارف المنكرات، يعيش في اللهو والمجون واللذات، لا يخشى خالقًا، ولا يستحيي من مخلوق.
شتان بين من يصفُّ قدميه لله في دياجير الليل راكعًا وساجدًا، مستغفرًا تائبًا منيبًا، وجلاً قلبه، دامعةً عينه، وبين من يغطُّ في نومه حتى الصباح، نهاره شراب وطعام، وليله رقاد ومنام، لسان حاله يقول:
إنما الدنيا طعام *** وشراب ومنام
فإذا فاتك ذلك *** فعلى الدنيا السلام
شتان بين ليل المطيعين، وليل العصاة، قال القشيري: "الليل لأحد رجلين: للمطيع وللعاصي؛ هذا في احتيال أعماله، وهذا في اعتذار عن قبيح أفعاله" (لطائف الإشارات، لعبد الكريم القشيري ج4 ص36).
لماذا قيام الليل؟!
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "فضل صلاة الليل على صـلاة النهار كفضل صدقة السر على صدقة العلانية" (لطائف المعارف ص54).
وقال عمرو بن العاص: "ركعة بالليل خير من عشر بالنهار" (لطائف المعارف ص54).
وقال الإمام بن رجب: "وإنما فضِّلت صلاة الليل على صلاة النهار؛ لأنها أبلغ في الإسرار، وأقرب إلى الإخلاص" (لطائف المعارف ص54).
وقال الإمام النووي: "وإنما رجِّحت صلاة الليل وقراءته؛ لكونها أجمع للقلب، وأبعد عن الشاغلات والملهيات والتصرف في الحاجات، وأصون عن الرياء وغيره من المحبطات، مع ما جـاء الشرع به من إيجـاد الخيرات في الليـل" (التبيان في آداب حملة القرآن، للإمام النووي ص28).
ولأن الليل أطيب الأوقات التي يخلو فيها المحبوب بمحبوبه، فيطيب الكلام، وتحلو المناجاة،
: "لعل أطيب أوقات المناجاة أن تخلو بربك والناس نيام، والخلِّيُّون هُجَّع، قد سكن الكون كله، وأرخى الليل سدوله، وغابت نجومه، فتستحضر قلبك، وتتذكَّر ربك، وتتمثَّل ضعفك وعظمة مولاك، فتأنس بحضرته، ويطمئن قلبك بذكره، وتفرح بفضله ورحمته، وتبكي من خشيته، وتشعر بمراقبته، وتلحُّ في الدعاء، وتجتهد في الاستغفار، وتفضي بحوائجك لمن لا يعجزه شيء، ولا يشغله شيء عن شيء... تسأله دنياك وآخرتك، وجهادك ودعوتك، وأمانيك ووطنك، وعشيرتك ونفسك وإخوانك"
فهو "وقت صفاء الخاطر عن الأشغال المشوشة، وجمع القلب، وهدوء الصوت، ونوم الناس، وأبعد من الرياء والسمعة، وأفضل أوقات الطاعة ما كان فيه الفراغ وإقبال الخاطر، وأيضًا فذلك الوقت وقت النزول الإلهي.. وأيضًا فللسهر خاصيةٌ عجيبةٌ في إضعاف البهيمية، وهو بمنزلة الترياق، ولذلك جرت عادة طوائف الناس أنهم إذا أرادوا تسخير السباع وتعليمها الصيد لم يستطيعوه إلا من قِبَل السهر والجوع، ولذلك كانت العناية بصلاة التهجد أكثر، فبين النبي صلى الله عليه وسلم فضائلها، وضبط آدابها وأذكارها" (حجة الله البالغة لشاه ولي الله الدهلوي ج1 ص100).
وفي الليل تخرج الكنوز من القلوب، وتتفرَّغ معاني العبودية المخزونة، فالعبد المؤمن الذي يقضي نهاره في نظرات وتأملات من الذكر والتلاوة، والدعوة والحركة؛ إذا ما جَنَّ الليل تفجَّرت هذه المعاني، فأعلن العبودية والخشيـة لله، وأظهر الذل الانكسار والافتقار لله.
ولأنها شاقة على النفوس فقد زاد فضلها وعظم أجرها، قال عمر بن عبد العزيز: "أفضل الأعمال ما أُكرهت عليه النفوس" (سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز، لابن الجوزي، ص183).
نعم هي شديدة لا يقوى عليها إلا موفق، كابد نفسه وراضها حتى استقامت، قال محمد بن المنكدر: "كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت" (حلية الأولياء، ج3 ص147، وصفة الصفوة ج2 ص495).
وقال ثابت البناني: "كابدت قيام الليل عشرين سنةً، وتنعَّمت به عشرين سنة أخرى" (لطائف المعارف ص75).
ولأن ركعات الليل لا يقدر عليه إلا أهل الإرادات، وأصحاب العزائم، قال الإمام ابن رجب: "الليل منهلٌ يرده أهل الإرادة كلهم، ويختلفون فيما يردون ويريدون ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشَرَبَهُمَ﴾ (البقرة: من الآية 60)، فالمحب: يتنعم بمناجاة محبوبه، والخائف: يتضرَّع لطلب العفو ويبكي على ذنوبه، والراجي: يُلِحُّ في سؤال مطلوبه، والغافل المسكين: أحسن الله عزاءه في حرمانه وفوات نصيبه" (لطائف المعارف ص 65).
إلى المسلم أينما وجد :أهمس.. الليل عزنا
فما زال قيام الليل هو الطريق المُعبَّد في خارطتنا الإيمانية، وُطِّئَتْ سُبله بآثار أقدام المتهجِّدين، أما النوم والغطيط، والتنعُّم بالدفء والفراش فصحارى مهلكـة.
"فالذين يسلكون طريق الاسلام أحوج ما يكونون إلى قيام الليل؛ لما يعطيه من الزاد" ( 2).
فهنا فريق الأيقاظ، شديدو الحساسية برقابة الله لهم، ورقابتهم هم لأنفسهم، "فهم الأيقاظ في جنح الليل والناس نيام، المتوجهون إلى ربهم بالاستغفار والاسترحام، لا يطعمون الكرى إلا قليلاً، ولا يهجعون في ليلهم إلا يسيرًا، يأنسون بربهم في جوف الليل، فتتجافى جنوبهم عن المضاجع، ويخفُّ بهم التطلع، فلا يثقلهم المنام".
نعم..لنكن دعاة ......لماذا لا نكون دعاة ..... فالدعاة من هم الدعاة؟ الدعاة إلى الله هم الذين يجيدون الانقلاب إلى المساجد.. الدعاة الذين يمرغون الجباه في المحاريب.. الدعاة الذين يهتفون باسم الله بين الأعواد.. الدعاة الذين يختمون القرآن تحت سواريه دون أن يشغلهم شاغل، أو يصرفهم صارف، قد تعلَّقت قلوبهم بالمساجد، ولولا أن الله سبحانه قال: ﴿فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)﴾ (الجمعة) ما خرجوا منها أبدًا.
فالدعاة هم الذين ينيرون الليل المظلم بأنوراهم المشرقة، هم الذي يعطِّرون بأنفاسهم نسيم السحر، هم الذين يبدِّدون الصمت المطبق بآيات القرآن، ويبدِّدون السكون الموحش بانحناء الأصلاب، وسكون الجباه، هم الذين يَرْوون الجفاف اليابس بدموع الأسحار، قلوبهم خاشعة، وأنفسهم زكية، وألسنتهم ذاكرة، وأعينهم ساهرة، وجباههم ساجدة، وجنوبهم متجافية، مساؤهم مساء الصالحين، وليلهم ليل العابدين، الله أكبر من ليلهم ما أروعه!، ومن قيامهم ما أمتعه!، ومن أنينهم ما أحبه!.
فالليل هو مدرسة الربانيين من الدعاة، الذين تصلح بهم الدنيا، ويُعزُّ بهم الدين.. "وإنها حقًّا لمدرسة، فيها وحدها يستطيع رجالها أن يُذكوا شعلة حماستهم، وينشروا النور في الأرجاء التي لفَّتها ظلمات الجاهلية".
ولذلك لا يستغرب بعد ذلك أن تكون هذه العبادة الشاقة على النفس هي التي ربَّى فيها الربُّ- سبحانه وتعالى- نبيه صل الله عليه وسلم قبل أن يبعثه، وكانت واجبةً عليه وعلى أتباعه في البداية؛ ذلك لأن جيل التأسيس لا يستطيع القيام بمهام الدعوة العظيمة ما لم يكن صلب القاعدة، ومتين الأساس.
وإن أي دعوة تريد أن تخطو خطواتٍ على طريق التمكين، فلا بد أن يكون لأبنائها نصيب كبير من الليل، بمشاقِّه ومتاعبه، بثماره وأرباحه، "وإن دعوة الإسلام اليوم لا تعتلي حتى يُذْكي دعاتها شعلهم بليل، ولا تشرق أنوارها فتبدِّد ظلمات جاهلية القرن العشرين ما لم تلهج بـ"يا قيوم".
ما نقول هذا أول مرة، وإنما هي وصية يخاطب بها الدعـاة، : "دقائق الليل غالية، فلا ترخِّصوها بالغفلة".
أفعيينا أن نُعيدَ السمت الأول؟ أم غرَّنا اجتهادٌ في التساهل والتسيُّب والكسل من جديد؟!
إن القول لدى الله لا يبدَّل، ولكنَّا أرخصنا الدقائق الغالية بالغفلة، فثقل المغـرم، ولم يجعل الله لنا من أمرنا يسرًا.
إن انتصار الدعوة لا يكمن في كثرة الرقِّ المنشور، بل برجعة نصوح إلى العرف الأول (الرقائق للأستاذ محمد أحمد الراشد ص22).
فلا بدَّ أن يَصُفَّ الدعاة أقدامهم بليل، وأن ينصبوا سيقانهم، ويرفعوا أيدي الضراعة في ظلماته، فإذا ما فعلوا كانوا على الدرب، أما إذا ما غطُّوا في نومهم، فلا أنام الله أعينهم.
سأل رجلٌ إبراهيم بن هارون- رحمه الله- عن كم حزبه من الليل، فقال: "أوَ أَنام من الليل شيئًا؟!! إذًا لا أنام الله عيني" (تاريخ بغداد، ج14 ص341، وصفة الصفوة ج3 ص18).
فإن من أعجب العجاب أن تجد داعيةً يصول ويجول، ويروح ويجيء، ويخطب ويحاضر، ويُنظِّم ويخطط، ويدير ويوجِّه، ثم إذا جنَّه الليل يأتي سريره كأنه خشبة لا تتحرك، ولا تجري فيها الحياة.
عجبًا كيف يسمَّى داعيةً من ليس له نصيب من ركعات يركعها بالليل؟!
عجبًا من عين داعية، كيف تُطيعه في أن تقضي عُرض الليل مغمضة نائمة؟!
عجبًا من قدمي داعية، كيف تُطيعه في أن تظل طوال الليل ممدة؟!
عجبًا من جسمان داعية، كيف يُطيعه في أن يظل طوال الليل هامدًا؟!
فمن سواكم أيها الدعاة يُضيء عتمات الليل بنور القيام؟ ومن سواكم أيها الدعاة يرجُّ ثُبات الكون بآي القرآن؟!
يا دعاة اليوم يا مِلح البلد *** من يُصلح الملح إذا الملح فسد
عجبًا كيف يكون ليل الداعية كليل الجُهَّال، ونهاره كنهار السفهاء، فماذا يفيده أن يُعدَّ في عداد الدعاة وقلبه وعمله وخلقه وسلوكه بعيد عنهم!!.
كان سفيان بن عيينة يقول: "إذا كان نهاري نهار سفيه، وليلي ليل جاهل، فما أصنع بالعلم الذي كتبت" (حلية الأولياء ج7 ص217).
عجبًا لداعية يحفظ القرآن، وتحمل يده المصحف، فإذا جنَّه الليل نام كالجيف.
يقول سفيان بن عيينة: "كيف يكون حاملُ القرآن عاملاً به وهو ينام الليل ويفطر النهار" (تنبيه المغترين للشعراني ص36).
فالنوم طوال الليل إذا جاز في حق كل الناس، فإنه لا يجوز في حق الدعاة، كيف يجوز لهم ذلك وهم الذين نذروا أنفسهم لإنقاذ الغرقى من بحور المعاصي، وانتشالهم من ظلمات الجهل، وإرشاد الناس على طريق الله.
قال أبو عصمة بن عصام البيهقي: "بتُّ عند أحمد بن حنبل، فجاء بالماء فوضعه، فلما أصبح نظر إلى الماء، فإذا هو كما كان، فقال: سبحان الله!! رجل يطلب العلم لا يكون له وقت بالليل" (فتح المغيث للسخاوي ص360 ، وتاريخ بغداد ج57).
فسبحان الله، داعية يُبصِّرُ الناسَ بطريق لا يعرفه! يدلُّ الناس على طريق الله، وليس له وقت بالليل بين يدي مولاه!.
إن الذين يقفون عند حدود المعلومات النظرية للتربية الإلهية القرآنية دون أن يكون لهم نصيب من التطبيق العملي والتجربة.. فهؤلاء ليسوا بعلماء، وليسوا بدعاة، وإنما هم جامعو معلومات، لا تقربهم من الحق خطوة واحدة، أولئك هم مفاليس الآخرة، فأنَّى يكون لهم نصر وتمكين، وأنَّى تُفتح قلوب الناس لدعوتهم؟!!
فإن الفتوحات والتوفيق، وإرشاد الناس لخير الأمور لن يكون إلا إذا كان الإنسان قائمًا بحقوق مولاه، فيهديه الله لسبل الخير من حيث لا يدري، وترد الفوائد وتنهمر عليه اللطائف في ظُلم الليل، وإذا خفي على الإنسان شيء قام في ظلام الليل، ووقف في محرابه، وصلى ركعات، فإذا بالله يفتح عليه.
أستحلفك بالله يا أخي أن تقوم الآن، وأن تضرب بأقدامك لحاف النوم، فإن لم تقم أنت فمن يقوم؟!
إن لم تكن للحق أنت فمن يكون والناس في محراب لذات الدنايا عاكفون
قم من فراشك فليس للدعاة وقت للنوم.. "قم للأمر العظيم الذي ينتظـرك، والعبء الثقيل المهيأ لك.. قم للجهد والنَصَبِ، والكد والتعب.. قم فقد مضى وقت النوم والراحة.. قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد.. فإن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحًا، ولكنه يعيش صغيرًا ويموت صغيرًا، فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير فما له والنوم؟ وما له والراحة؟ وما له والفراش الدافئ، والعيش الهادئ، والمتاع المريح؟!"
"فالطريق طويل، والعبء ثقيل، ولا بد من الزاد الكثير، والمدد الكبير.. وهو هناك؛ حيث يلتقي العبد بربه في خلوة وفي نجاء، وفي تطلع وفي أنس.. تفيض منه الراحة على التعب والضنى، وتفيض منه القوة على الضعف والقلـة؛ وحيث تنفض الروح عنها صغائر المشاعر والشواغل، وترى عظمة التكليف، وضخامة الأمانة، فستصغر ما لاقت وما تلاقي من أشواك الطريق!..
إن الله رحيم، كلَّف عبده الدعوة، ونزَّل عليه القرآن، وعرَّفه متاعب العبء وأشواك الطريق، فلم يدع نبيه صلى الله عليه وسلم بلا عون أو مدد، وهذا هو المدد الذي يعلم سبحانه أنه هو الزاد الحقيقي الصالح لهذه الرحلة المضنية في ذلك الطريق الشائك، وهو زاد أصحاب الدعوة إلى الله إلى الله في كل أرض، وفي كل جيل؛ فهي دعوة واحدة، ملابستها واحدة، وموقف الباطل منها واحد، وأسباب هذا الموقف واحدة، ووسائل الباطل هي ذاتها وسائله، فلتكن وسائل الحق هي الوسائل التي عَلِمَ الله أنها وسائل هذا الطريق"
فيا من كان له قلب فانقلب، يا من كان له وقت مع الله فذهب، قيام السحر يستوحش لك، وصيام النهار يسأل عنك، ليالي الوصال تعاتبك على الهجر.
تغيرتمو عنَّا بصحبة غيرنا *** وأظهرتم الهجران ما هكذا كنَّا
وأقسمتمو ألَّا تحولوا عن الهوى *** فحلتم عن العهد القديم وما حلنا
ليالي كنا نستقي من وصالكم *** وقلبي إلى تلك الليالي قد حَنَّا
ويستصرخك نسيم السحر:
أين أيامك والدهر ربيع *** والنوى معزولة والقرب والٍ
أستحلفك بالله يا أخي، كفى هذا الجفاء، كفى النوم والراحة، ربك مشتاق إليك، يحب أن يراك بين يديه بالليل، قم فالنجوم تهتف فيك من عليائها:
قم الليل يا هذا لعلك ترشد *** إلى كم تنام الليل والعمر ينفد
أراك بطول الليل- ويحك- نائمًا *** وغيرك في محرابه يتهجد
ولو علم البطَّال ما نال زاهد *** من الأجر والإحسان ما كان يرقد
فصام وقام الليل والناس نُوَّم *** ويخلو برب واحد متفرد
ماذا دهاك يا أخي؟ يحب أن يراك وتأبى أن تذهب إليه!! ربك يدعوك وأنت تُعرض عنه!! لا تجيبه وأنت تزعم حُبَّه!!.
"أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: يا داود، كذب من ادَّعى محبتي وإذا جنَّ عليه الليل نام عنِّي، أليس كل محب يحب الخلوة بحبيبه" [color=blue](المستطرف في كل فن مستظرف للإبشيهي ص 14).
تعصي الإله وأنت تزعم حبه *** هذا لعمرك في القياس شنيع
لو كان حبك صادقًا لأطعته *** إن المحب لمن يحب مطيع
وعن الحسين بن حسن قال: أخذ الفضيل بن عياض بيدي، ثم قال: "يا حسين.. يقول الله: كذب من ادَّعى محبتي، وإذا جنّه الليل نام عني، أليس كل حبيب يحب خلوة حبيبه؟ هاأنذا مُطَّلِع على أحبابي، فإذا أجنهم الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم، ومثلت نفسي بين أعينهم، فخاطبوني على المشاهدة، وكلموني على الحضور" (عيون الأخبار لابن قتيبة، ج2 ص230).
فأول درجات المحبة كثرة الزيارات، وتتابع الجلسات، وأنت قليل الزيارات، مُتقاطع الجلسات، بخيل بالركعات والسجدات، فما هذا بحب.
والصبر يحمد في المواطن كلها *** وعن الحبيب فإنه لا يحمد
ويستصرخك عابد الصنم أن تقوم بين يدي مولاك، فإن لم تقم فبئس القوم أنت تنام ومولاك لا ينام، قال عبد الواحد بن زيد: "ركبنا في مركب فطرحتنا الريح إلى جزيرة، فإذا فيها رجل يعبد صنمًا، فقلنا له: من تعبد؟ فأومأ إلى الصنم، فقلنا: إن معنا في المركب من يسوي مثل هذا، ليس هذا بإله يُعْبَد، قال: فأنتم لمن تعبدون؟ قلنا: الله عزَّ وجلَّ، قال: وما الله؟ قلنا: الذي في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، وفي الأحيـاء والأموات قضاؤه، فقال: كيف علمتم به؟ قلنا: وجه هذا الملك إلينا رسولاً كريمًا، فأخبرنا بذلك، قال: فما فعل الرسول؟ قلنا: لما أدَّى الرسالة قبضه الله؟ قال: فما ترك عندكم علامة؟ قلنا: بلى، ترك عندنا كتاب الملك، قال: أروني كتاب الملك، فينبغي أن تكون كتب الملوك حِسانًا، فأتيناه بالمصحف، فقال: ما أعرف هذا، فقرأنا عليه سورة من القرآن، فلمْ نَزَلْ نقرأ ويبكي، حتى ختمنا السورة، فقال: ينبغي لصاحب هذا الكلام أن لا يُعصى، ثم أسلم، وحملناه معنا، وعلمناه شرائع الإسلام، وسورًا من القرآن، فلما جنَّ علينا الليل، وصلينا العشاء، أخذنا مضاجعنا، فقال لنا: يا قوم هذا الإله الذي دللتموني عليه إذا جن عليه الليل ينام، قلنا: لا يا عبد الله، هو عظيم قيوم لا ينام، قال: بئس العبيد أنتم، تنامون ومولاكم لا ينام" (روض الرياحين في حكايات الصالحين لأبي السعادات اليافعي ص45، وصفة الصفوة ج4 ص369).
يا من أرخصتم دقائق الليل بغفلتكم، يا من قصرتم الليل بنومكم، ودنستم النهار بآثامكم، يوصي يحيى بن معاذ كل واحد منكم، فيقول: "الليل طويل، فلا تقصره بمنامك، والإسلام نقي فلا تدنسه بآثامك" (لطائف المعارف لابن رجب ص356، وصفة الصفوة ج4 ص94).
ويأبى الإمام الشهيد حسن البنا إلا أن يقدح زناد الحماس في نفسك، فيخط كلماته النيرات، ليبين لك فضل ركعات الليل، وعظيم جزائها، فيقول: "هي قرة العين، وراحة الضمير، وأنس النفس، وبهجة القلب، والصلة بين العبد والرب، والمدفأة تصعد برقيها أرواح المحبين، إلى أعلى عليين، فتنعم بالأنس، وترتع في رياض القدس، وتجتمع لها أسباب السعادة من عالمي الغيب والشهادة.
وتلك بارقة تسطع في نفس من قدح زنادها، وحلاوة يستشعرها من تذوق مشهدها، وهل رأيت بربك أعذب وأحلى، وأروع وأجلى، من مظهر ذلك الخاشع العابد، الراكع الساجد، القانت آناء الليل يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، وقد نامت العيون، وهدأت الجفون، واطمأنت الجنوب في المضاجع، وخلا كل حبيب بحبيبه، ونادى منادي العارفين من المحبين:
سهر العيون لغير وجهك ضائع *** وبكاؤهن لغير فقدك باطل (1)
فيا أيها الداعية.. اسجد واقترب، فبدون هذه الركعات والسجدات وهمهمات الليل لن تحقق قربًا من الله، ولن تحقق قربًا من النصر والتمكين.
فيا أخي.. أدعو فيك إيمانك بالله، وهو مستقر في قلبك، وهو يملأ نفسك... وأخاطب فيك إيمانك بالمصطفى صلى الله عليه وسلم وهو الذي يملأ قلبك، وينطق بالصلاة والسلام عليه لسانك، إنني أدعوك للخير الذي تحبه، والأجر الذي تنشده، فلا تكن من الغافلين النائمين، وليكن لك من الليل نصيب ولو ركعات معدودات، قال محمد بن سيرين: "لا بد من قيام الليل ولو بقدر حلب شاة" (فتح القدير للشوكاني ج5 ص443، والجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي ج4 ص356، والزهد للإمام أحمد ص306، وإحياء علوم الدين ج1 ص558، ومصنف بن أبي شيبة ج2 ص72 رقم(6609) والتمهيد ج13 ص209).
يا راقــد الليل كم ترقـد *** قم يا حبيبي قد دنا الموعد
وخـذ من الليل وأوقاتـه *** وردًا إذا ما هـجع الرُّقَّـد
من نام حتى ينقضي ليلـه *** لم يبلـغ المنزل أو يجهـد
قل لأولي الألباب أهل التقى *** قنطرة العرض لكم موعـد
-
الأربعاء أكتوبر 10, 2018 11:21 am من طرف salmosa1
» موسوعة شيلان كروشية بالباترون
الخميس سبتمبر 06, 2018 8:24 pm من طرف ام ايه والى
» الحروف العربية ( الأبجدية ) مع الصور للتلوين
الخميس فبراير 08, 2018 2:14 pm من طرف يحيي
» أكثر من 30 رسمة للتلوين لغرس السلوكيات الإسلامية
الجمعة يناير 26, 2018 6:55 am من طرف wided-algerie
» نمي مهارات طفلك الحسابية واليدوية مع لعبة وصل الأرقام واكتشف الصورة
الإثنين يناير 22, 2018 3:53 pm من طرف أم بناتها
» كتيب اعمال يدويةو فنية للاطفال
السبت يناير 20, 2018 2:11 am من طرف wided-algerie
» موسوعة كوفيات الكروشية (crochet scarfs ) بالباترون
الثلاثاء يناير 16, 2018 9:58 pm من طرف yokeioa
» لعبة وصل الأرقام واكتشف الصورة لتنمية ذكاء الاطفال
الأحد يناير 07, 2018 2:34 pm من طرف أم بناتها
» جاكيت طويل شتوي بالكروشية مع الباترون
الخميس يناير 04, 2018 7:24 pm من طرف atikaaa
» علب مناديل بالخرز 3 موديلات بالباترون
الأربعاء يونيو 07, 2017 5:11 am من طرف فتح الفتوح
» توب كله انوووووووووووثه من عمل ايديك
السبت مايو 20, 2017 8:36 pm من طرف ام ايه والى
» 6 مفارش كروشية مستديرة وخطيرة بالباترون
السبت مايو 20, 2017 8:31 pm من طرف ام ايه والى
» من بنطلون قديم وتيشرت اعملي توب راااااائع كله انوووووثه
السبت مايو 20, 2017 8:27 pm من طرف ام ايه والى
» 4 وحدات يعملوا جيليه رووووووعة بالكروشية مع الباترون
السبت مايو 20, 2017 8:14 pm من طرف ام ايه والى
» جيليه يضفي على ملابسك شياااااااااكة كروشية بالباترون
السبت مايو 20, 2017 7:45 pm من طرف ام ايه والى
» باليرو ررررررررررررررقة كروشية بالباترون
السبت أبريل 22, 2017 4:59 am من طرف Aya tarek
» الأرقام الانجليزية من ( 1 - 10 ) للتلوين
السبت أبريل 08, 2017 1:18 am من طرف vimto
» 4 مفارش ايتامين لها حواف كروشية خطيرررررررة بالباترون
الإثنين مارس 27, 2017 5:07 am من طرف شعاع النور
» موسوعة وحدات كروشية على شكل أدوات مطبخ بالباترون
الإثنين مارس 20, 2017 6:48 pm من طرف ام الحنون
» شنطة حلوووووة من تيشيرت قديم
الثلاثاء فبراير 28, 2017 6:48 pm من طرف ماردين
» تفنني بخياطه فستان ناعم لنفسك بدون باترون والطريقة بالفيديو
الثلاثاء فبراير 28, 2017 6:46 pm من طرف ماردين
» خياطة تنورة قصيرة بكرانيش بدون باترون آخر انوووووثة ( فيديو )
الثلاثاء فبراير 28, 2017 6:24 pm من طرف ماردين
» من بوكسر زوجك اعملي تنورة امووووووووورة
الثلاثاء فبراير 28, 2017 6:21 pm من طرف ماردين
» التيشيرت الساحر فصلي منه 10 موديلات منتهى البساطة
الثلاثاء فبراير 28, 2017 5:56 pm من طرف ماردين
» لون وتعلم المحافظة على آداب الطعام
السبت فبراير 25, 2017 9:12 pm من طرف هدى ؟؟؟؟